سورة المرسلات - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المرسلات)


        


{انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ}.
هو إشارة إلى المكذبين بيوم الفصل، بعد أن أصروا على موقفهم من التكذيب به، وبعد أن ضربوا صفحا عن كل ماقام بين أيديهم من شواهد، وما انتصب لهم من أدلة على قدرة اللّه التي لا يعجزها شىء، فمضوا في طريق الكفر والضلال، حتى ضمتهم القبور.. ثم هاهم أولاء يبعثون من قبورهم، ويتلفتون إلى أي مساق هم مسوقون إليه، وإذا صوت مزلزل يخترق أصماخ آذانهم، ويلقى فيها بهذا الأمر الصادع: {انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي انطلقوا إلى موقف الحساب والجزاء، إلى ساحة الفصل، فهذا يومه الذي كنتم به تكذبون.. ثم يتبع هذا الأمر بأمر آخر يكشف لهم عن وجه المنطلق الذي ينطلقون إليه: {انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ}.
وأين ذلك الظل ذو الثلاث شعب؟ إنه على غير ما يعرف الناس من ظل في الحياة الدنيا.. فليبحثوا عنه هنا في المحشر.. إنه بلا جدال ليس من ظلال الجنة، فظلال الجنة ممتدة دائمة، كما وصفها اللّه سبحانه وتعالى في قوله:
{أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [35: الرعد] وفى قوله تبارك اسمه: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [27- 30 الواقعة].
وإذن فهذا الظل لا مكان له إلا في جهنم، إذ ليس في هذا اليوم إلا الجنة والنار.. وإنه لهناك فعلا.
وقد جاء في القرآن الكريم وصف لهذا الظل الجهنمى في قوله تعالى: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ؟ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [41- 44: الواقعة] واليحموم الدخان الأسود الكثيف، الذي ينعقد في الجو.
والدخان الكثيف، إذا خرج من موقده، كان في أول أمره كتلة واحدة، فإذا ارتفع قليلا في الجو تخلله الهواء، ورق قليلا، وكان طبقة أرق من الطبقة التي تحته،، ثم إذا علا في الجو، رقّ، فكان أرق مما تحته.. ثم إذا ارتفع أكثر من هذا المدى ذاب في الهواء وتبدد، ولم يعد له ظل!! فهذا هو الظل، وتلك هى شعبه الثلاث التي تشعب إليها، وكأن كل شعبة من الشعب الثلاث كيان قائم بذاته، وإنما سميت شعبة لأن أصلها من مصدر واحد، هو النار.
وقوله تعالى: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} هو وصف لهذا الظل الجهنمى.. إنه لا ظليل، أي لا يستظل به من حر، ولا يأوى إلى ظله محرور، من الكائنات الحية، وإنه لا يغنى من اللهب، أي لا يدفع عنهم لهب جهنم الذي ينوشهم من كل جانب.
وفى دعوتهم إلى الانطلاق إلى ظلّ هو من دخان جهنم، لا إلى جهنم ذاتها، مع أنهم مدعوون إليها أصلا- في هذا استهزاء بهم، وسخرية منهم، ومبالغة في إيلامهم، حيث يلوّح لهم بالظل، الذي يفتح لهم بابا من الأمل، فإذا هذا الظل لا يتمتع به إلا من أخذ مقعده من النار!! قوله تعالى: {إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} الضمير في إنها يعود إلى جهنم، التي يقوم على سمائها هذا الظل ذو الثلاث شعب.
وفى وصف الشرر الذي ترمى به بأنه كالقصر، أي البيت العظيم- إشارة إلى ضخامة حريقها، الذي لا تبلغ جبال الدنيا مجتمعة بعضا من ضخامته.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الجمالات: جمع جمّل، وهو الحيوان المعروف.
وفى جمع الجمل، على جمالات، إشارة إلى أنها من الجمال المتخيرة من بين الجمال، ضخامة، وامتلاء.. مثل رجالات، التي هى جمع لرجال ذوى صفات متميزة.
وفى وصف الجمال بأنها صفر، إشارة إلى وصف لون الشرر، بعد أن وصف بالضخامة بأنه كالقصر.
وفى وصف لون الشرر بالجمالات الصفر، دون غيرها من كل ذى لون أصفر- إشارة إلى الحركة، واللون، والضخامة، جميعا.. فهذا الشرر ينطلق بعضه إثر بعض في تتابع كأنه قطعان من الجمال الصفراء، ينطلق بعضها إثر بعض! فالويل للمكذبين، من هذا البلاء المحيط بهم، ومن هذه النار التي ترمى بهذا الشرر العظيم.
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال بالمكذبين الضالين، هو يوم لا ينطقون فيه، ولا تتحرك ألسنتهم بمثل هذا الزور الذي كانت تتشدق به في الدنيا.. {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [65: يس] وهذا لا ينفى أنهم يتكلمون يوم القيامة، ولكن ليس الكلام الذي كان يجرى على ألسنتهم في الدنيا، من زور وبهتان، ومن تفاخر وتطاول على العباد.. إن كل شيء فيهم يومئذ ينطق بالحق! وقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي لا يؤذن لهم بكلام يلقون فيه بأعذار يعتذرون بها عن جناياتهم في الحياة الدنيا: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [57: الروم] فالويل لهؤلاء المكذبين، ولكل مكذب بيوم الدين.
قوله تعالى: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} أي هذا هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، لقد وقع، فلا مناص لكم منه، ولا مخرج لكم من البلاء الذي أنتم ملاقوه فيه، وقد التقيتم فيه بمن سبقكم من المكذبين قبلكم، الذين ضربت لكم الأمثال بهم في الدنيا، فلم تنتفعوا بها، ولم يكن لكم فيمن سبقكم عبرة.
قوله تعالى: {فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أي فإن كان لكم أيها المكذبون الضالون حيلة تحتالون بها، أو كيد تكيدون به، لتخرجوا من هذا البلاء- فهاتوه!! فالأمر هنا، أمر تعجيز، حيث يواجه المأمور بما هو محال.
فادفع بكفك إن أردت فخازنا ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟
إنه لا كيدلهم، ولا حيلة بين أيديهم لدفع هذا البلاء، فالويل لهم من عذاب اللّه.


{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} هذا عرض لحال أهل الإيمان والتقوى، يوم القيامة، حيث يدعون إلى الجنة، وما فيها من ظلال وعيون، وفواكه مما تشتهى الأنفس، وتلذا الأعين وقد دعى أهل الضلال من قبل إلى جهنم، وإلى ظلها ذى الثلاث شعب! وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
هو دعوة لأهل الجنة إلى هذه الموائد الممدودة لهم وما عليها من نعيم الجنة وثمارها.. فليأكلوا ما طاب لهم، وليهنئوا بما أكلوا وما شربوا، فهذا جزاء ما كانوا يعملون.. إنه الجزاء الذي أعده اللّه لأهل الإحسان من عباده.
وفى هذا العرض للمتقين، وفى هذه الدعوة التي تستحثهم على الطعام والشراب- كبت للمكذبين الضالين، وإثارة للحسد الذي يأكل قلوبهم، إن كان ثمّة بقية لم تأكلها نار جهنم.
قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
هو مواجهة للمكذبين الضالين، وهم في أماكنهم من دنياهم، وما هم فيه منها من لهو ولعب، إنه ليس لهم إلا الويل، والبلاء.. فليأكلوا، وليتمتعوا في دنياهم بما شاءوا.. إنهم مجرمون، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، ثم تساق إلى الذبح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [12: محمد] فمن كانت النار تنتظره، كيف يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب؟
وفى قوله تعالى: {قَلِيلًا} إشارة إلى أن هذا المتاع الذي ينا المشركون في الدنيا.. هو- مهما كثر- متاع قليل، لا يلبث أن يزول معبا وراءه يلاء طويلا، وعذابا دائما. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} هو تعليل لهذا الوعد من قوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا}.
وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} [75: مريم] قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} هو معطوف على قوله تعالى: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ومن إجرامهم أنهم كانوا {إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} أي استجيبوا للّه وأسلموا له {لا يَرْكَعُونَ} أي لا يسمعون، ولا يستجيبون، عنادا، واستكبارا، وضلالا.. فالويل والبلاء يومئذ للمكذبين.. وهؤلاء فريق منهم.
وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة، استدعاء لغيرهم أن يشهد موقفهم هذا الآثم، وأن ينكره عليهم، ويتلقى منهم عبرة وموعظة، فلا يقع تحت طائلة هذا التهديد الذي هدّدوا به.
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} إنكار لموقف هؤلاء المشركين من دعوة الحق التي دعوا إليها، والتي حملها إليهم القرآن الكريم، الذي يتلوه عليهم رسول كريم.. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، ولم ينكشف لهم على ضوئه طريق الهدى والإيمان، فبأى حديث إذن بعد هذا الحديث يؤمنون؟ وبأى نور بعد نوره يبصرون؟ إنهم إذا لم يهتدوا بهذا القرآن فلن يهتدوا أبدا، ولن يجدوا إلى نور الحق سبيلا.
هذا، وقد تكرر في السورة الكريمة قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} عشر مرات، وكلها تدعّ المكذبين الضالين دعّا، وتلقاهم على رأس كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى جهنم، بالويل والثبور، وترجمهم باللعنات، تصبها على رءوسهم صبّا.
وأكثر من هذا، فإنهم وهم يساقون إلى جهنم، وإذا يلقون في جحيمها، ويستظلون بظلها ذى الثلاث شعب- يجيئهم حديث عن أهل الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة، ردّوا عنها بهذه الصاعقة يرمى بها في وجوههم: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} انهم ليس لهم إلا الويل، يأتيهم من كل لسان، وفى كل مقام.

1 | 2